فصل: مصادر السيرة النبوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السيرة النبوية دروس وعبر



.مصادر السيرة النبوية:

تنحصر المصادر الرئيسية المعتمدة للسيرة النبوية في أربعة مصادر:
1- القرآن الكريم:
وهو مصدر أساسي نستمد منه ملامح السيرة النبوية، فقد تعرض القرآن الكريم لنشأته {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 5- 6] كما تعرض لأخلاقه الكريمة العالية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقد تحدث القرآن عما لقيه عليه الصلاة والسلام من أذى وعنت في سبيل دعوته، كما ذكر ما كان المشركون ينعتونه به من السحر والجنون صدا عن دين الله عز وجل، وقد تعرض القرآن لهجرة الرسول كما تعرض لأهم المعارك الحربية التي خاضها بعد هجرته، فتحدث عن معركة بدر، وأحد، والأحزاب، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وغزوة حنين، وتحدث عن بعض معجزاته، كمعجزة الإسراء والمعراج.
وبالجملة فقد تحدث عن كثير من وقائع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما كان الكتاب الكريم أوثق كتاب على وجه الأرض، وكان من الثبوت المتواتر بما لا يفكر إنسان عاقل في التشكيك بنصوصه وثبوتها التاريخي، فإن ما تعرض له من وقائع السيرة يعتبر أصح مصدر للسيرة على الإطلاق.
ولكن من الملاحظ أن القرآن لم يتعرض لتفاصيل الوقائع النبوية، وإنما تعرض لها إجمالا، فهو حين يتحدث عن معركة لا يتحدث عن أسبابها، ولا عن عدد المسلمين والمشركين فيها، ولا عن عدد القتلى والأسرى من المشركين، وإنما يتحدث عن دروس المعركة وما فيها من عبر وعظات، وهذا شأن القرآن في كل ما أورده من قصص عن الأنبياء السابقين والأمم الماضية، ولذلك فنحن لا نستطيع أن نكتفي بنصوص القرآن المتعلقة بالسيرة النبوية لنخرج منها بصورة متكاملة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- السنة النبوية الصحيحة:
السنة النبوية الصحيحة التي تضمنتها كتب أئمة الحديث المعترف بصدقهم والثقة بهم في العالم الإسلامي هي:
الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه. ويضاف إليها: موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، فهذه الكتب وخاصة البخاري ومسلم في الذروة العليا من الصحة والثقة والتحقيق، أما الكتب الأخرى، فقد تضمنت الصحيح والحسن، وفي بعضها الضعيف أيضا.
من هذه الكتب التي حوت القسم الأكبر من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقائعه وحروبه، وأعماله، نستطيع أن نكون فكرة شاملة- وإن كانت غير متكاملة أحيانا- عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما يزيد الثقة بها والاطمئنان إليها أنها رويت بالسند المتصل إلى الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الذين عاشروا الرسول ولازموه، ونصر الله بهم دينه، وقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، فكانوا أكمل أجيال التاريخ استقامة أخلاق وقوة إيمان، وصدق حديث، وسمو أرواح، وكمال عقول، فكل ما رووه لنا عن الرسول بالسند الصحيح المتصل يجب أن نقبله كحقيقة تاريخية لا يخالجنا الشك فيها.
ويحاول المستشرقون المغرضون وأتباعهم من المسلمين الذين رق دينهم، وفتنوا بالغرب وعلمائه أن يشككوا في صحة ما بين أيدينا من كتب السنة المعتمدة، لينفذوا منها إلى هدم الشريعة، والتشكيك بوقائع السيرة، ولكن الله الذي تكفل بحفظ دينه قد هيأ لهم من يرد سهام باطلهم، وكيدهم إلى نحورهم وقد تعرضت في كتابي (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) إلى جهود علمائنا في تمحيص السنة النبوية، وسردت شبه المستشرقين ومن تابعهم، وناقشتها نقاشا علميا، أرجو الله أن يثيبني عليه، ويجعله في صفحات حسناتي يوم العرض عليه.
3- الشعر العربي المعاصر لعهد الرسالة:
مما لا شك فيه أن المشركين قد هاجموا الرسول ودعوته على ألسنة شعرائهم، مما اضطر المسلمين إلى الرد عليهم على ألسنة شعرائهم، كحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وغيرهما، وقد تضمنت كتب الأدب، وكتب السيرة التي صنفت فيما بعد قسطا كبيرا من هذه الأشعار التي نستطيع أن نستنتج منها حقائق كثيرة عن البيئة التي كان يعيش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي ترعرعت فيها عقيدة الإسلام أول قيامها.
4- كتب السيرة:
كانت وقائع السيرة النبوية روايات يرويها الصحابة رضوان الله عليهم إلى من بعدهم، وقد اختص بعضهم بتتبع دقائق السيرة وتفاصيلها، ثم تناقل التابعون هذه الأخبار ودونوها في صحائف عندهم، وقد اختص بعضهم بالعناية التامة بها، أمثال أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه (32- 105هـ) وعروة بن الزبير بن العوام (23- 93هـ) ومن صغار التابعين عبد الله بن أبي بكر الأنصاري (توفي سنة 135هـ) ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري (50- 124هـ) الذي جمع السنة في عهد عمر بن عبد العزيز بأمره، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري (توفي سنة 129هـ).
ثم انتقلت العناية بالسيرة إلى من بعدهم، حتى أفردوها بالتصنيف، ومن أشهر أوائل المصنفين في السيرة محمد بن إسحاق بن يسار (توفي سنة 152هـ) وقد اتفق جمهور العلماء والمحدثين على توثيقه، إلا ما روي عن مالك، وهشام بن عروة بن الزبير من تجريحه،
وقد حمل كثير من العلماء المحققين تجريح هذين العالمين الكبيرين له بعداوات شخصية كانت قائمة بينهما وبين ابن إسحاق.
ألف ابن إسحاق كتابه (المغازي) من أحاديث وروايات سمعها بنفسه في المدينة ومصر، ومن المؤسف أن هذا الكتاب لم يصل إلينا، فقد فُقِدَ فيما فُقِدَ من تراثنا العلمي الزاخر، ولكن مضمون الكتاب بقي محفوظا بما رواه عنه ابن هشام في سيرته عن طريق شيخه البكائي الذي كان من أشهر تلامذة ابن إسحاق.
سيرة ابن هشام:
هو أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري، نشأ بالبصرة وتوفي سنة 213 أو 218 هـ على اختلاف الروايات، ألف ابن هشام كتابه (السيرة النبوية) مما رواه شيخه البكائي عن ابن إسحاق، ومما رواه هو شخصيا عن شيوخه، مما لم يذكره ابن إسحاق في سيرته، وأغفل ما رواه ابن إسحاق مما لم يتفق مع ذوقه العلمي وملكته النقدية، فجاء كتابا من أوفى مصادر السيرة النبوية، وأصحها، وأدقها، ولقي من القبول ما جعل الناس ينسبون كتابه إليه، فيقولون: سيرة ابن هشام وشرح كتابه هذا عالمان من الأندلس: السهيلي (508- 581هـ) والخشني (535- 604هـ).
طبقات ابن سعد:
هو محمد بن سعد بن منيع الزهري، ولد بالبصرة سنة 168هـ، وتوفي ببغداد سنة 230هـ كان كاتبا لمحمد بن عمر الواقدي المؤرخ الشهير في المغازي والسيرة (130- 207هـ) سار ابن سعد في كتابه (الطبقات) على ذكر أسماء الصحابة والتابعين- بعد ذكر سيرة الرسول عليه السلام- بحسب طبقاتهم، وقبائلهم، وأماكنهم، ويعتبر كتابه (الطبقات) من أوثق المصادر الأولى للسيرة، وأحفظها بذكر الصحابة والتابعين.
تاريخ الطبري:
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224- 310هـ) إمام، فقيه، محدث، صاحب مذهب في الفقه لم ينتشر كثيرا ألف كتابه في التاريخ غير مقتصر على سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ذكر تاريخ الأمم قبله، وأفرد قسما خاصا لسيرته عليه السلام، ثم تابع الحديث عن تاريخ الدول الإسلامية حتى قرب وفاته.
يعتبر الطبري حجة ثقة فيما يروي، ولكنه كثيرا ما يذكر روايات ضعيفة أو باطلة، مكتفيا بإسنادها إلى رواتها الذين كان أمرهم معروفا في عصره، كما في رواياته عن أبي مخنف، فقد كان شيعيا متعصبا، ومع ذلك فقد أورد له الطبري كثيرا من أخباره بإسنادها إليه، كأنه يتبرأ من عهدتها، ويلقي العبء على أبي مخنف.
تطور التأليف في السيرة:
ثم تطور التأليف في السيرة، فأفردت بعض نواحيها بالتأليف خاصة، كـ (دلائل النبوة) للأصبهاني، و(الشمائل المحمدية) للترمذي، و(زاد المعاد) لابن قيم الجوزية، و(الشفاء) للقاضي عياض، و(المواهب اللدنية) للقسطلاني وهي مشروحة في ثماني مجلدات بقلم الزرقاني المتوفى سنة 1122هـ.
هذا ولا يزال العلماء يؤلفون في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام بأسلوب حديث يتقبله ذوق أبناء العصر، ومن أشهر الكتب المؤلفة في العصر الحديث كتاب (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) للشيخ محمد الخضري رحمه الله، وقد لقي كتابه قبولا حسنا، وقررت دراسته في المعاهد الدينية في أكثر أنحاء العالم الإسلامي.

.الفصل الأول: في حياته قبل البعثة:

.الوقائع التاريخية:

تدلنا الأخبار الثابتة عن حياته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة على الحقائق التالية:
1- أنه ولد في أشرف بيت من بيوت العرب، فهو من أشرف فروع قريش، وهم بنو هاشم، وقريش أشرف قبيلة في العرب، وأزكاها نسبا وأعلاها مكانة، وقد روي عن العباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا». رواه الترمذي بسند صحيح.
ولمكانة هذا النسب الكريم في قريش لم نجدها فيما طعنت به على النبي صلى الله عليه وسلم لاتضاح نسبه بينهم، ولقد طعنت فيه بأشياء كثيرة مفتراة إلا هذا الأمر.
2- أنه نشأ يتيما، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب، ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمه آمنة فذاق صلى الله عليه وسلم في صغره مرارة الحرمان من عطف الأبوين وحنانهما، وقد كفله بعد ذلك جده عبد المطلب، ثم توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنوات، فكفله بعد ذلك عمه أبو طالب حتى نشأ واشتد ساعده، وإلى يتمه أشار القرآن الكريم بقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6].
3- أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السنوات الأربع الأولى من طفولته في الصحراء في بني سعد، فنشأ قوي البنية، سليم الجسم، فصيح اللسان، جريء الجنان، يحسن ركوب الخيل على صغر سنه قد تفتحت مواهبه على صفاء الصحراء وهدوئها، وإشراق شمسها ونقاوة هوائها.
4- كانت تعرف فيه النجابة من صغره، وتلوح على محياه مخايل الذكاء الذي يحببه إلى كل من رآه، فكان إذا أتى الرسول وهو غلام جلس على فراش جده، وكان إذا جلس عليه لا يجلس معه على الفراش أحد من أولاده (أعمام الرسول)، فيحاول أعمامه انتزاعه عن الفراش، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا.
5- أنه عليه الصلاة والسلام كان يرعى في أوائل شبابه لأهل مكة أغنامهم بقراريط يأخذها أجرا على ذلك، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا قد رعى الغنم» قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا» وفي رواية أخرى أنه قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فأجاب: «وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط» ثم لما بلغ من عمره خمسا وعشرين، عمل لخديجة بنت خويلد في التجارة بما لها على أجر تؤديه إليه.
6- لم يشارك عليه الصلاة والسلام أقرانه من شباب مكة في لهوهم ولا عبثهم، وقد عصمه الله من ذلك، فقد استفاض في كتب السيرة أنه سمع وهو في سن الشباب غناء من إحدى دور مكة في حفلة عرس، فأراد أن يشهدها، فألقى الله عليه النوم، فما أيقظه إلا حر الشمس، ولم يشارك قومه في عبادة الأوثان، ولا أكل شيئا مما ذبح لها، ولم يشرب خمرا، ولا لعب قمارا، ولا عرف عنه فحش في القول، أو هُجر [قبحٌ] في الكلام.
7- وعرف عنه منذ إدراكه رجحان العقل، وأصالة الرأي، وفي حادثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة دليل واضح على هذا، فقد أصاب الكعبة سيل أدى إلى تصدع جدرانها، فقرر أهل مكة هدمها وتجديد بنائها، وفعلوا، فلما وصلوا إلى مكان الحجر الأسود فيها اختلفوا اختلافا شديدا فيمن يكون له شرف وضع الحجر الأسود في مكانه، وأرادت كل قبيلة أن يكون لها هذا الشرف، واشتد النزاع حتى تواعدوا للقتال، ثم ارتضوا أن يحكم بينهم أول داخل من باب بني شيبة، فكان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا بحكمه، فلما أخبر بذلك، حل المشكلة بما رضي عنه جميع المتنازعين، فقد بسط رداءه ثم أخذ الحجر فوضعه فيه، ثم أمرهم أن تأخذ كل قبيلة بطرف من الرداء، فلما رفعوه وبلغ الحجر موضعه، أخذه ووضعه بيده، فرضوا جميعا، وصان الله بوفور عقله وحكمته دماء العرب من أن تسفك إلى مدى لا يعلمه إلا الله.
8- عرف عليه الصلاة والسلام في شبابه بين قومه بالصادق الأمين، واشتهر بينهم بحسن المعاملة، والوفاء بالوعد، واستقامة السيرة، وحسن السمعة، مما رغب خديجة في أن تعرض عليه الاتجار بمالها في القافلة التي تذهب إلى مدينة (بصرى) كل عام على أن تعطيه ضعف ما تعطي رجلا من قومها، فلما عاد إلى مكة وأخبرها غلامها ميسرة بما كان من أمانته وإخلاصه، ورأت الربح الكثير في تلك الرحلة، أضعفت له من الأجر ضعف ما كانت أسمت له، ثم حملها ذلك على أن ترغب في الزواج منه، فقبل أن يتزوجها وهو أصغر منها بخمسة عشر عاما، وأفضل شهادة له بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة له بعد أن جاءه الوحي في غار حراء وعاد مرتعدا: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (الضعيف)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
9- سافر مرتين خارج مكة، أولاهما مع عمه أبي طالب حين كان عمره اثنتي عشرة سنة، وثانيتهما حين كان عمره خمسا وعشرين سنة، متاجرا لخديجة بمالها، وكانت كلتا الرحلتين إلى مدينة (بصرى) في الشام، وفي كلتيهما كان يسمع من التجار أحاديثهم، ويشاهد آثار البلاد التي مر بها، والعادات التي كان عليها سكانها.
10- حبب الله إليه عليه الصلاة والسلام قبل البعثة بسنوات أن يخرج إلى غار حراء- وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، على قرب منها- يخلو فيه لنفسه مقدار شهر- وكان في شهر رمضان- ليفكر في آلاء الله، وعظيم قدرته، واستمر على ذلك حتى جاءه الوحي، ونزل عليه القرآن الكريم.